مني عبد الكريم تكتب: حكايات عن الغراب وعيشه  

لوحة للفنانة : ثريا فهمى
لوحة للفنانة : ثريا فهمى

ثلاث حكايات عن الغراب اجتمعت في مشهد واحد، الأول يحمل قلادة لامعة محلقا بها بعيدا، بينما الثانى يحمل بمنقاره سيجارة وكأنه يدخن، أما الثالث فقد وقف فوق إشارة المرور منتظرا أن يتغير لونها للأخضر، بينما فتاة تحلق بسلة محاطة بفطر عيش الغراب.

وفي تلك اللوحة التى قدمتها الفنانة ثريا فهمى بمعرضها الذى استضافته مؤخرا قاعة الزمالك للفن تحت عنوان «عيش غراب»، اختارت الغراب بطلا لتحكى بريشتها ثلاث حكايات مجتمعة تكشف الكثير عن ذلك الطائر.

فالغراب صاحب القلادة يرتبط بالمثل الشعبى «يا ما جاب الغراب لأمه» أو «يا فرحة ما تمت خدها الغراب وطار» لأن الغربان معروف عنها أنها تجمع كل ما يلمع وتطير به بعيدا لتضعه فى مخبأ سرى خاص بها، حتى وإن كانت أشياء بلا قيمة، أما الحكاية الثانية فتكشف - كما تقول الفنانة- عما فعلته بعض البلاد المتقدمة فى تدريب الغربان على جمع القمامة وأعقاب السجائر، تلك الحكاية التى تؤكد ذكاء طائر الغراب.

وهو ما أكده المشهد الثالث، فمن المعروف أن الغراب يجمع الجوز واللوز من على الشجر، ويقف فوق إشارة المرور ينتظر أن يتحول لونها للأخضر ليلقيها أمام السيارات المارة لتقشيرها ومن ثم يسهل عليه تناولها.

ترجمت الفنانة ثريا كل ما جمعته من حكايات عن الغراب فى لوحاتها، تسترجع وجود الغراب فى الأمثال والحكايات الشعبية والأغانى.. لتكشف عن ذلك الجانب الخفى الذى يتحلى به الطائر المظلوم دوما - من ذكاء وحكمة وفطنة.. إذ تريد الفنانة تغيير النظرة الشائعة عن طائر الغراب الذى ظل مظلوما لفترة طويلة.

ولكن الموضوع أعمق من ذلك، فلم يكن الغراب هو بطلها الأساسى وإنما فطر «عيش الغراب» .. ذلك البطل الأسطورى الذى لولاه لما استمرت الحياة، حيث يعمل فى صمت ليعيد ترتيب نسيج الحياة.. إذ ترجع البداية الحقيقية لفكرة المعرض إلى فطر عيش الغراب، فقد كان هو ذلك المفتاح الذى فتح أمامها أبواب عالم بديع من الجمال الفاتن شكلا ومضمونا، إذ ثمة فوائد لا تنتهي  لهذا الفطر الساحر، فعلى مدار عام كامل من البحث والتأمل، وقعت  الفنانة أسيرة جمال مئات الأنواع من فطر «عيش الغراب» بألوانه وحكاياته التى لا تنتهى.

ولتقول إن علينا أن نفتح أعيننا جيدا لما يحدث حولنا فى الطبيعة الأم التى لا تتوقف عن إبهارنا، أما عن اسم المعرض «عيش الغراب» وظهور طائر الغراب بالأعمال فتقول ثريا : الغراب هو من علم الإنسان أن يأكل الفطر المثمر المعروف باسم المشروم، ولذا أطلق عليه اسم «عيش الغراب».


وإذا كان الفنان فى الغالب فى رحلة بحث مستمرة لتحقيق الديمومة لأعماله الفنية، فإن ثمة رابطا آخر له علاقة بالاستمرارية كشفت عنه الفنانة ثريا فهمى باختيارها فطر «عيش الغراب» بطلا لأعمالها، إذ إن جانبا كبيرا من أهمية هذا الموضوع تتضح فى الفلسفة التى نتعلمها من الطبيعة فى تجديد نفسها من أجل استمرار الحياة، إذ إنه أصبح من الضرورى أن نحذو حذو الطبيعة فى تحقيق التوازن من أجل الحفاظ على الاستدامة فى كل أوجه الحياة.

ولاسيما فى إيجاد بدائل طبيعية للمنتجات المصنعة التى أضرت بالبيئة كالبلاستيك وغيره،  حيث يزداد توجه العالم حاليا للاستفادة من الفطر فى تصنيع منتجات طبيعية من بينها مواد التغليف والجلود والأوراق وغيرها.

والأمر الذى تلقى الفنانة الضوء عليه من خلال لوحات معرضها، وكذلك من خلال عرض بعض الأشياء التى تهدف لتعريف الجمهور عن قرب بذلك النبات الساحر «عيش الغراب».


وربما لم تكن الفنانة ثريا فهمى وحدها هى التى استلهمت أعمالها الفنية من الطبيعة، ففى نفس التوقيت وفى القاعة المقابلة قدمت الفنانة أمينة الدمرداش معرضها الفنى تحت عنوان «قصيدة إلى النفس» ، والذى وظفت من خلاله أيضا فطر عيش الغراب فى بعض الأعمال. 


فعلى الرغم مما يوحى به العنوان الغارق فى الذاتية، إلا أن أعمالها تأتى استكمالا لتجربتها فى الكشف عن علاقة الإنسان الخفية بالطبيعة والتى تؤكد على تلك الروابط بين الإنسان وجذوره والتى تقوده فى النهاية لمعرفة نفسه بشكل أعمق.

وتلك الرحلة التى بدأتها الدمرداش فى معرضها «الطبيعة» وطورتها فى معرضها «الجذور».. ففى معرضها الطبيعة الذى مالت فيه إلى التشخيص تقول أمينة إن «الطبيعة تعنى الجانب الحقيقى من أنفسنا، الجانب الأكثر صدقا وشفافية وعريا».

وأما فى معرضها «الجذور» تبدو البطولة لجذوع الأشجار والنباتات، إلا أن الإنسان كان دائما موجودا، فى رحلة بحثه عن جذوره وكينونته وتلك الحقيقة المختبئة بالأعماق لتؤكد على ذلك فى مقولتها «إن الجذور التى ننتمى إليها، والتى نتجاهلها فى بعض الأحيان مرتبطة بشكل أساسى فى علاقتنا الإنسانية كما مع الطبيعة». 


فى أعمال معرضها «قصيدة إلى النفس» تزداد الروابط وتتشعب .. إذ تحدث حالة تداخل كبيرة بين الجسد الإنسانى والطبيعة لاسيما المتمثلة فى جذوع الأشجار الضخمة، لدرجة حدوث حالة التحام بين الأجساد والأشجار فى مشاهد أقرب للسريالية.

وكذلك تنمو أشكال مختلفة من فطر «عيش الغراب» على المسطح، ذلك الفطر الذى نذوب فى نسيجه حين نرحل عن الحياة، إذ تقول الدمرداش «تلعب النباتات دورا أساسياً فى حياتنا. فالطبيعة ملاذ للتائهين نركن لسحرها لكى نولد من جديد».


وقد حملت اللوحات الزيتية التى قدمتها الفنانة أمينة الدمرداش الكثير من التفاصيل التى تحاور مساحات كبيرة من الفراغ، إذ تميل الفنانة إلى ترك مساحات باللون الأصلى لخامة القماش.

وربما لتصل إلى جذور الأشياء، إذ أنها ترى فى تعرى الأشياء وتجردها فلسفة للبحث عن الحقائق الكامنة وراء محاولات التجميل الظاهرية، ودعوة لقبول الأشياء على ما هى عليه بل وقبول أنفسنا بالتبعية. 


«قصيدة النفس» – كما وصفته الفنانة فى كلمتها – معرض «تتحول فيه اللوحات لمساحات شخصية.. أتصالح وأتكيف مع مشاعرى من خلالها، تفيض ألوانا فتعكس تفاؤلاً لطالما سعيت له».

وترى أمينة فى لوحاتها مساحة للبوح إذ لطالما تؤكد أنها لا تجيد التعبير بالكلمات، وأن الفن كان دائما هو وسيلتها للتعبير عن نفسها، وربما لهذا تؤكد أنه ليس ثمة تفسير محدد لكل شىء فى العمل الفنى، وأن الحوار بين العمل الفنى والمشاهد يجب أن يقوم بشكل كبير على التلقى الوجدانى.
 

اقرأ ايضا | أبو الحسن الجمال يكتب: الموسيقار محمد سلطان.. غاب عنا واحتجب